فصل: تفسير الآيات (255- 256):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (253- 254):

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} أي كلمه الله تعالى يعني موسى عليه السلام {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه: وما أوتي نبي آية إلا وقد أوتي نبينا مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل: انشقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء وأهل الأرض عن الإتيان بمثله.
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس بن محمد بن إسحاق الثقفي، أنا قتيبة بن سعيد، أنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن سنان، أخبرنا هشيم، أنا سيار، أنا يزيد الفقير، أنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر، أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون».
قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد الرسل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} ثبت على إيمانه بفضل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} بخذلانه {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} أعاده تأكيدا {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} يوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا.
سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر؟ فقال: طريق مظلم لا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق فلا تلجه، فأعاد السؤال، فقال: سر الله في الأرض قد خفي عليك فلا تفتشه.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} قال السدي: أراد به الزكاة المفروضة وقال غيره: أراد به صدقة التطوع والنفقة في الخير {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} أي لا فداء فيه، سماه بيعا لأن الفداء شراء نفسه {وَلا خُلَّةٌ} لا صداقة {وَلا شَفَاعَةٌ} إلا بإذن الله، قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة كلها بالنصب، وكذلك في سورة إبراهيم الآية [31] {لا بيع فيه ولا خلال} وفي سورة الطور الآية [23] {لا لغو فيها ولا تأثيم} وقرأ الآخرون كلها بالرفع والتنوين {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها.

.تفسير الآيات (255- 256):

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
قوله عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبا المنذر أي آية من كتاب الله أعظم» قلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال فضرب في صدري ثم قال: «ليهنك العلم» ثم قال: «والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن وسف عن محمد بن إسماعيل قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال: فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود» فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال: لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك» قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود» فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة» قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال ما هي؟ قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص الناس على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة» قلت: لا قال: {ذاك شيطان}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} [2- غافر] حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح».
قوله تعالى: {اللَّه} رفع بالابتداء وخبره في {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ} الباقي الدائم على الأبد وهو من له الحياة، والحياة صفة الله تعالى: {الْقَيُّوم} قرأ عمر وابن مسعود {القيام} وقرأ علقمة {القيم} وكلها لغات بمعنى واحد، قال مجاهد {الْقَيُّوم} القائم على كل {شيء} وقال الكلبي: القائم على كل نفس بما كسبت وقيل هو القائم بالأمور. وقال أبو عبيدة: الذي لا يزول {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} السنة: النعاس وهو النوم الخفيف، والوسنان بين النائم واليقظان يقال منه وسن يسن وسنا وسنة والنوم هو الثقيل المزيل للقوة والعقل، قال المفضل الضبي: السنة في الرأس والنوم في القلب، فالسنة أول النوم وهو النعاس، وقيل السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء، نفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير.
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا علي بن حرب أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، ولكنه يخفض القسط، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال: حجابه النار.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ملكا وخلقا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} بأمره {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} قال مجاهد وعطاء والسدي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمر الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} أمر الآخرة، وقال الكلبي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها {وَمَا خَلْفَهُمْ} الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم، وقال ابن جريج: ما بين أيديهم ما مضى أمامهم وما خلفهم ما يكون بعدهم، وقال مقاتل: ما بين أيديهم، ما كان قبل خلق الملائكة وما خلفهم أي ما كان بعد خلقهم، وقيل: ما بين أيديهم أي ما قدموه من خير أو شر وما خلفهم ما هم فاعلوه {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي من علم الله {إِلا بِمَا شَاءَ} أن يطلعهم عليه يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال الله تعالى: {فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} [36- الجن] قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} أي ملأ وأحاط به، واختلفوا في الكرسي فقال الحسن: هو العرش نفسه.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله: {وسع كرسيه السماوات والأرض} أي سعته مثل سعة السماوات والأرض، وفي الأخبار أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس.
وقال علي ومقاتل: كل قائمة من الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد بالكرسي علمه وهو قول مجاهد، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسه، وقيل: كرسيه ملكه وسلطانه، والعرب تسمي الملك القديم كرسيا، {وَلا يَئُودُه} أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال: آدني الشيء أي أثقلني {حِفْظُهُمَا} أي حفظ السماوات والأرض {وَهُوَ الْعَلِيُّ} الرفيع فوق خلقه والمتعالى عن الأشياء والأنداد، وقيل العلي بالملك والسلطنة {الْعَظِيم} الكبير الذي لا شيء أعظم منه.
قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة- المقلاة من النساء لا يعيش لها ولد- وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود، فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا: هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم».
وقال مجاهد: كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلوهم، فنزلت: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.
وقال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فأنزل الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فخلى سبيلهما.
وقال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعا أو كرها أنزل الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام، وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} يعني الشيطان، وقيل: كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت، وقيل كل ما يطغي الإنسان، فَاعُوْل من الطغيان، زيدت التاء فيه بدلا من لام الفعل، كقولهم حانوت وتابوت، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ} أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين، والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى: {لا انْفِصَامَ لَهَا} لا انقطاع لها {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} قيل: لدعائك إياهم إلى الإسلام {عَلِيم} بحرصك على إيمانهم.